فصل: ذكر عزل محمد بن سليمان عن الكوفة واستعمال عمرو بن زهير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة ثلاث وخمسين ومائة:

فيها عاد المنصور من مكة إلى البصرة فجهز جيشاً في البحر إلى الكرك الذين تقدم ذكر إغارتهم على جدة.
وفيها قبض المنصور على أبي أيوب المورياني وعلى أخيه وبني أخيه، وكانت منازلهم المناذر، وكان قد سعى به كاتبه أبان بن صدقة.
وقيل: كان سبب قبضه أن المنصور في دولة بني أمية ورد على الموصل وأقام بها مستتراً وتزوج امرأة من الأزد، فحملت منه، ثم فارق الموصل وأعطاها تذكرة وقال لها: إذا سمعت بدولة لبني هاشم فأرسلي هذه التذكرة إلى صاحب الأمر فهو يعرفها، فوضعت المرأة ولداً سمته جعفراً، فنشأ وتعلم الكتابة وما يحتاج إليه الكاتب.
وولي المنصور الخلافة، فقدم جعفر إلى بغداد واتصل بأبي أيوب فجعله كاتباً بالديوان، فطلب المنصور يوماً من أبي أيوب كاتباً يكتب له شيئاً، فأرسل جعفراً إليه، فلما رآه المنصور مال إليه وأحبه، فلما أمره بالكتابة رآه حاذقاً ماهراً، فسأله من أين هو ومن أبوه، فذكر فله الحال وأراه التذكرة، وكانت معه، فعرفه المنصور وصار يطلبه كل وقت بحجة الكتابة، فخافه أبو أيوب.
ثم إن المنصور أحضره يوماً وأعطاه مالاً وأمر أن يصعد إلى الموصل ويحضر والدته، فسار من بغداد، وكان أبو أيوب قد وضع عليه العيون يأتونه بأخباره، فلما علم مسيره سير وراءه من اغتاله في الطريق فقتله، فلما أبطأ على المنصور أرسل إلى أمه بالموصل من يسألها عنه، فذكرت له أنها لا علم لها به إلا أنه ببغداد يكتب في ديوان الخليفة، فلما علم المنصور ذلك أرسل من يقص أثره، فانتهى إلى موضع وانقطع خبره، فعلم أنه قتل هناك، وكشف الخبر فرأى أن قتله من يد أبي أيوب، فنكبه وفعل به ما فعل.
وقبض المنصور أيضاً على عباد مولاه، وعلى هرثمة بن أعين بخراسان وأحضرا مقيدين لتعصبهما لعيسى بن موسى.
وفيها أخذ المنصور الناس بتلبيس القلانس الطوال المفرطة الطول، فقال أبو دلامة:
وكنا نرجي من إمام زيادة ** فزاد الإمام المصطفى في القلانس

وفيها توفي عبيد ابن بنت ابن أبي ليلى قاضي الكوفة، فاستقضي مكانه شريك بن عبد الله النخعي.
وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري فوصل إلى حصن من حصون الروم ليلاً وأهله نيام، فسبى وأسر من كان فيه، ثم قصد اللاذقية الخراب فسبى منها ستة آلاف رأس سوى الرجال البالغين.
وحج بالناس هذه السنة المهدي، وكان أمير مكة محمد بن إبراهيم، وأمير المدينة الحسن بن زيد، وأمير مصر محمد بن سعيد، وكن يزيد بن منصور على اليمن في قول بعضهم، وعلى الموصل إسماعيل بن خالد بن عبد الله ابن خالد.
وفيها مات هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي، وقيل: سنة ست وخمسين، وقيل: تسع وخمسين. والحسن بن عمارة. وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر. وثور بن يزيد. وعبد الحميد بن جعفر بن عبد الله الأنصاري. والضحاك ابن عثمان بن عبد الله بن خالد بن خزام من ولد أخي حكيم بن حزام. وفطر ابن خليفة الكوفي.
فطر بالفاء والراء المهملة. والجرشي بضم الجيم، وبالشين المعجمة. ثم دخلت:

.سنة أربع وخمسين ومائة:

في هذه السنة سار المنصور إلى الشام وبيت المقدس وسير يزيد بن حاتم ابن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة إلى إفريقية في خمسين ألفاً لحرب الخوارج الذين قتلوا عمر بن حفص، وأراد المنصور بناء الرافق فمنعه أهل الرقة، فهم لمحاربتهم.
وسقطت في هذه السنة الصاعقة فقتلت بالمسجد الحرام خمسة نفر.
وفيها هلك أبو أيوب المورياني، وأخوه خالد، وأمر المنصور بقطع أيدي بني أخيه وأرجلهم وضرب أعناقهم.
وفيها استعمل على البصرة عبد الملك بن ظبيان النميري، وغزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي فبلغ الفرات.
وحج بالناس محمد بن إبراهيم وهو على مكة.
وكان على إفريقية يزيد بن حاتم، وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفيها مات أو عمرو بن العلاء، وقيل: مات سنة سبع وخمسين، وكان عمره ستاً وثمانين سنة. ومحمد بن عبد الله الشعيثي النصري بالنون. وفيها مات عثمان بن عطاء. وجعفر بن برقان الجزري. وأشعب الطامع. وعلي بن صالح بن حبي. وعمر بن إسحاق بن يسار أخو محمد بن إسحاق. ووهيب بن الورد المكي الزاهد. وقرة بن خالد أبو خالد السدوسي البصري وهشام الدستوائي، وهو هشام بن أبي عبد الله البصري.
الشعيثي بضم السين المعجمة، وفي آخره ثاء مثلثة. ثم دخلت:

.سنة خمس وخمسين ومائة:

فيها دخل يزيد بن حاتم إفريقية، وقتل أبا حاتم، وملك القيروان وسائر الغرب. وقد تقدم ذكر مسيره ورحوبه مستقصى.
وفيها سير المنصور المهدي لبناء الرافقة، فسار إليها، فبناها على بناء مدينة بغداد، وعمل للكوفة والبصرة سوراً وخندقاً، وجعل ما أنفق فيه من الأموال على أهلها. ولما أراد المنصور معرفة عددهم أمر أن يقسم فيهم خمسة دراهم خمسة دراهم، فلما علم عددهم، أمر بجبايتهم أربعين درهماً لكل واحد، فقال الشاعر:
يا لقومي ما لقينا ** من أمير المؤمنينا

قسم الخمسة فينا ** وجبانا الأربعينا

وفيها طلب ملك الروم الصلح إلى المنصور على أن يؤدي إليه الجزية.
وفيها غزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي. وعزل عبد الملك بن أيوب بن ظبيان عن البصرة، واستعمل عليها الهيثم بن معاوية العتكي.

.ذكر عزل العباس بن محمد عن الجزيرة واستعمال موسى بن كعب:

وفيها عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة، وغضب عليه، وغرمه مالاً فلم يزل ساخطاً عليه، حتى غضب على عمه إسماعيل بن علي، فشفع فيه عمومة المنصور، وضيقوا عليه، حتى رضي عنه، فقال عيسى بن موسى للمنصور: يا أمير المؤمنين، أرى آل علي بن عبد الله، وإن كانت نعمك عليهم سابغة، فإنهم يرجعون إلى الحسد لنا، فمن ذلك أنك غضبت على إسماعيل بن علي، منذ أيام فضيقوا عليك، حتى رضيت عنه، وأنت غضبان على أخيك العباس منذ كذا وكذا، فما كلمك فيه أحد منهم؛ فرضي عنه.
وكان المنصور قد استعمل العباس على الجزيرة بعد يزيد بين أسيد، فشكا يزيد منه وقال: إنه أساء عزلي، وشتم عرضي. فقال له المنصور: أجمع بني إحساني وإساءته يعتدلا. فقال له يزيد بن أسيد: إذا كان إحسانكم جزاء لإساءتكم كانت طاعتنا تفضلا منا عليكم.
ولما عزل المنصور أخاه عن الجزيرة استمل عليها موسى بن كعب.

.ذكر عزل محمد بن سليمان عن الكوفة واستعمال عمرو بن زهير:

وفيها عزل محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن الكوفة، واستعمل عليها عمرو بن زهير الضبي أخاً المسيب بن زهير؛ وقيل: إنما عزل سنة ثلاث وخمسين، وكان عزله لأسباب بلغته عنه، منها أنه قتل عبد الكريم بن أبي العوجاء، وكان قد حبسه على الزندقة، وهو خال معن بن زائدة الشيباني، فكثر شفعاؤه عند المنصور، ولم يتكلم فيه إلا ظنين منهم، فكتب إلى محمد بن سليمان بالكف عنه إلى أن يأتيه رأيه.
وكان ابن أبي العوجاء قد أرسل إلى محمد بن سليمان يسأله أن يؤخره ثلاثة أيام، ويعطيه مائة ألف، فلما ذكر لمحمد أمر بقتله، فلما أيقن أنه مقتول قال: والله لقد وضعت أربعة آلاف حديث حللت فيها الحرام، وحرمت فيها الحلال، والله لقد فطرتكم يوم صومكم، وصومتكم يوم فطركم؛ فقتل.
وورد كتاب المنصور إلى محمد يأمره بالكف عنه، فوصل وقد قتله، فلما بلغ قتله المنصور غضب، وقال: والله لقد هممت أن أقيده به! ثم أحضر عمه عيسى بن علي وقال له: هذا عملك؛ أنت أشرت بتولية هذا الغلام الغر؛ قتل فلاناً بغير أمري، وقد كتبت بعزله، وتهدده؛ فقال له عيسى: إن محمداً إنما قتله على الزندقة، فإن كان أصاب فهو لك، وإن أخطأ فعليه، ولئن عزلته على أثر ذلك ليذهبن بالثناء والذكر، ولترجعن بالمقالة من العامة عليك؛ فمزق الكتاب.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أنكرت الخوارج الصفرية المجتمعة بمدينة سجلماسة على أميرهم عيسى بن جرير أشياء، فشدوه وثاقاً، وجعلوه على رأس الجبل، فلم يزل كذلك حتى مات، وقدموا على أنفسهم أبا القاسم سمكو بن واسول المكناسي جد مدرار.
وفيها ولد أبو سنان الفقيه المالكي بمدينة القيروان من إفريقية.
وفيها عزل الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عن المدينة، واستعمل عليها عمه عبد الصمد بن علي، وكان على مكة والطائف محمد بن إبراهيم؛ وعلى الكوفة عمرو بن زهير؛ وعلى البصرة الهيثم بن معاوية؛ وعلى مصر محمد بن سعيد؛ وعلى إفريقية يزيد بن حاتم؛ وعلى الموصل خالد بن برمك، وقيل: موسى بن كعب بن سفيان الخثعمي.
وفي هذه السنة مات مسعر بن كدام الكوفي الهلالي. ثم دخلت:

.سنة ست وخمسين ومائة:

.ذكر عصيان أهل إشبيلية على عبد الرحمن الأموي:

في هذه السنة سار عبد الرحمن الأموي، صاحب الأندلس، إلى حرب شقنا، وقصد حصن شيطران، فحصره وضيق عليه، فهرب إلى المفازة كعادته، وكان قد استخلف على قرطبة ابنه سليمان، فأتاه كتابه يخبره بخروج أهل إشبيلية مع عبد الغفار وحيوة بن ملابس عن طاعته، وعصيانهم عليه، واتفق من بها من اليمانية معهما، فرجع عبد الرحمن ولم يدخل قرطبة، وهاله ما سمع من اجتماعهم وكثرتهم، فقدم ابن عمه عبد الملك بن عمر، وكان شهاب آل مروان، وبقي عبد الرحمن خلفه كالمدد له.
فلما قارب عبد الملك أهل إشبيلية قدم ابنه أمية ليعرف حالهم، فرآهم مستيقظين، فرجع إلى أبيه، فلامه أبوه على إظهار الوهن، وضرب عنقه، وجمع أهل بيته وخاصته، وقال لهم: طردنا من المشرق إلى أقصى هذا الصقع، ونحسد على لقمة تبقي الرمق؛ اكسروا جفون السيوف، فالموت أولى أو الظفر.
ففعلوا، وحمل بين أيديهم، فهزم اليمانية وأهل إشبيلية، فلم تقم بعدها لليمانية قائمة، وجرح عبد الملك.
وبلغ الخبر إلى عبد الرحمن، فأتاه وجرحه يجري دماً، وسيفه يقطر دماً، وقد لصقت يده بقائم سيفه، فقبله بين عينيه، وجزاه خيراً، وقال: يا إبن عم قد أنكحت ابني وولي عهدي هشاماً ابنتك فلانة، وأعطيتها كذا وكذا، وأعطيتك كذا، وأولادك كذا، وأقطعتك وإياهم، ووليتكم الوزارة.
وهذا عبد الملك هو الذي ألزم عبد الرحمن بقطع خطبة المنصور، وقال له: تقطعها وإلا قتلت نفسي! وكان قد خطب له عشرة أشهر، فقطعها.
وكان عبد الغفار وحيوة بن ملابس قد سلما من القتل. فلما كانت سنة سبع وخمسين ومائة سار عبد الرحمن إلى إشبيلية، فقتل خلقاً كثيراً ممن كان مع عبد الغفار وحيوة ورجع. وبسبب هذه الوقعة وغش العرب مال عبد الرحمن إلى اقتناء العبيد.

.ذكر الفتنة بإفريقية مع الخوارج:

قد ذكرنا هرب عبد الرحمن بن حبيب، الذي كان أبوه أمير إفريقية، مع الخوارج، واتصاله بكتامة، فسير يزيد بن حاتم أمير إفريقية العسكر في أثره، وقاتلوا كتامة.
فلما كانت هذه السنة سير يزيد عسكراً آخر مدداً للذين يقاتلون عبد الرحمن، فاشتد الحصار على عبد الرحمن، فمضى هارباً، وفارق مكانه، فعادت العساكر عنه.
ثم ثار في هذه السنة على يزيد بن حاتم أبو يحيى بن فانوس الهواري بناحية طرابلس، فاجتمع عليه كثر من البربر، وكان عسكر ليزيد بن حاتم مع عامل البلد، فخرج العامل والجيش معه، فالتقوا على شاطئ البحر من أرض هوارة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أبو يحيى بن فانوس وقتل عامة أصحابه، وسكن الناس بإفريقية وصفت ليزيد بن حاتم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ظفر الهيثم بن معاوية، عامل البصرة، بعمرو بن شداد الذي كان عامل إبراهيم بن عبد الله على فارس؛ وسبب ظفره به أنه ضرب غلاماً له، فأتى الهيثم، فدله عليه، فأخذه، فقتله، وصلبه بالمربد.
وفيها عزل الهيثم عن البصرة، واستعمل سوار القاضي على الصلاة مع القضاء، واستعمل سعيد بن دعلج على شرط البصرة وأحداثها، ولما وصل الهيثم إلى بغداد مات بها، وصلى عليه المنصور.
وفيها غزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي؛ وحج بالناس العباس بن محمد بن علي، وكان على مكة محمد بن إبراهيم الإمام، وعلى الكوفة عمرو بن زهير، وعلى الأحداث والجوالي والشرط بالبصرة سعيد بن دعلج، وعلى الصلاة والقضاء سوار بن عبد الله، وعلى كور دجلة والأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.
وفيها سخط عبد الرحمن الأموي على مولاه بدرٍ لفرط إدلاله عليه، ولم يرع حق خدمته وطول صحبته، وصدق مناصحته، فأخذ ماله، وسلبه نعمته، ونفاه إلى الثغر، فبقي به إلى أن هلك.
وفيها مات عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، قاضي إفريقية وقد تكلم الناس في حديثه.
وفيها توفي حمزة بن حبيب الزيات المقرئ، أحد القراء السبعة. ثم دخلت:

.سنة سبع وخمسين ومائة:

في هذه السنة بني المنصور قصره الذي يدعى الخلد.
وفيها حول المنصور الأسواق إلى الكرخ وغيره، وقد تقدم سبب ذلك. واستعمل سعيد بن دعلج على البحرين، فأنفذ إليها ابنه تميماً؛ وعرض المنصور جنده في السلاح، وجلس لذلك، وخرج هو لابساً درعاً وبيضة.
وفيها مات عامر بن إسماعيل المسلي، وصلى عليه المنصور، وتوفي سوار بن عبد الله، قاضي البصرة، واستعمل مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري؛ وعزل محمد بن سليمان الكاتب عن مصر، واستعمل مولاه مطرٌ، واستعمل معبد بن الخليل على السند وعزل هشام بن عمرو.
وغزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي، فوجه سناناً مولى البطال إلى حصن، فسبى وغنم؛ وقيل: إنما غزا الصائفة زفر بن عاصم.
وحج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان على مكة، وقيل كان عليها عبد الصمد بن علي، وعلى الأمصار من ذكرنا.
وفيها قتل المنصور يحيى بن زكرياء المحتسب، وكان يطعن على المنصور، ويجمع الجماعات فيما قيل.
وفيها مات عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام، وقيل: سنة ثمان وخمسين: وفي سنة سبع وخمسين مات الأوزاعي الفقيه، وإسمه عبد الرحمن بن عمرو، وله سبعون سنة؛ ومصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، جد الزبير بن بكار.
وفيها أخرج سليمان بن يقظان الكلبي قارله ملك الإفرنج إلى بلاد المسلمين، من الأندلس، ولقيه بالطريق، وسار معه إلى سرقسطة، فسبقه إليها الحسين بن يحيى الأنصاري من ولد سعد بن عبادة، وامتنع بها، فاتهم قارله ملك الإفرنج سليمان، فقبض عليه، وأخذه معه إلى بلاده، فلما أبعد من بلاد المسلمين واطمأن هجم عليه مطروحٌ وعيشون ابنا سليمان في أصحابهما، فاستنقذا أباهما، ورجعا به إلى سرقسطة، ودخلوا مع الحسين، ووافقوا على خلاف عبد الرحمن. ثم دخلت:

.سنة ثمان وخمسين ومائة:

.ذكر عزل موسى عن الموصل وولاية خالد بن برمك:

في هذه السنة عزل المنصور موسى بن كعب عن الموصل، وكان قد بلغه عنه ما أسخطه عليه، فأمر ابنه المهدي أن يسير إلى الرقة، وأظهر أنه يريد بيت المقدس، وأمره أن يجعل طريقه على الموصل، فإذا صار بالبلد أخذ موسى وقيده واستعمل خالد بن برمك.
وكان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم، وأجله ثلاثة أيام، فإن أحضر المال وإلا قتله؛ فقال لابنه يحيى: يا بني الق إخواننا عمارة بن حمزة، ومباركاً التركي، وصالحاً صاحب المصلى وغيرهم وأعلمهم حالنا.
قال يحيى: فأتيتهم، فمنهم من منعني من الدخول عليه ووجه المال، ومنهم من تجهمني بالرد ووجه المال سراً إلي، قال: فأتيت عمارة بن حمزة ووجهه إلى الحائط، فما أقبل به علي، فسلمت، فرد رداً ضعيفاً، وقال: كيف أبوك؟ فعرفته الحال، وطلبت قرض مائة ألفٍ، فقال: إن أمكنني شيء فسيأتيك، فانصرفت وأنا ألعنه من تيهه، وحدثت أبي بحديثه، وإذ قد أنفذ المال، قال: فجمعنا في يومين ألفي ألف وسبعمائة ألف، وبقي ثلاثمائة ألف تبطل الجميع بتعذرها.
قال: فعبرت على الجسر وأنا مهموم، فوثب إلي زاجرٌ فقال: فرخ الطائر أخبرك، فطويت، فلحقني، وأخذ بلجام دابتي، وقال لي: أنت مهموم، والله لتفرحن ولتمرن غداً في هذا الموضع واللواء بين يديك. فعجبت من قوله، فقال: إن كان ذلك فلي عليك خمسة آلاف درهم. فقلت: نعم؟! وأنا أستبعد ذلك.
وورد على المنصور انتقاض الموصل والجزيرة، وانتشار الأكراد بها، فقال: من لها؟ فقال المسيب بن زهير: عندي رأيٌ أعلم أنك لا تقبله مني، وأعلم أنك ترده علي، ولكني لا أدع نصحك. قال: قل! قلت: ما لها مثل خالد بن برمك. قال: فكيف يصلح لنا بعد ما فعلنا؟ قال: إنما قومته بذلك، وأنا الضامن له. قال: فليحضرني غداً، فأحضره، فصفح له عن الثلاثمائة ألف الباقية، وعقد له، وعقد لابنه يحيى على أذربيجان، فاجتاز يحيى بالزاجر، فأخذه معه، وأعطاه خمسين ألف درهم، وأنفذ خالدٌ إلى عمارة بالمائة ألف التي أخذها منه مع ابنه يحيى، فقال له: صيرفياً كنت لأبيك؟ قم عني، لا قمت! فعاد بالمال، وسار مع المهدي فعزل موسى بن كعب وولاهما.
فلم يزل خالدٌ على الموصل وابنه يحيى على أذربيجان إلى أن توفي المنصور، فذكر أحمد بن محمد بن سوار الموصلي قال: ما هبناه أميراً قط هيبتنا خالداً، من غير أن يشتد علينا، ولكن هيبة كانت له في صدورنا.

.ذكر موت المنصور ووصيته:

وفي هذه السنة توفي المنصور لست خلوان من ذي الحجة ببئر ميمون، وكان على ما قيل قد هتف به هاتف من قصره، فسمعه يقول:
أما وربّ السّكون والحرك ** إنّ المنايا كثيرة الشّرك

عليك، يا نفس، إن أسأت، وإن ** أحسنت بالقصد، كلّ ذاك لك

ما اختلف اللّيل والنّهار، ولا ** دارت نجوم السّماء في الفلك

إلاّ تنقّل السّلطان عن ملكٍ ** إذا انتهى ملكه إلى ملك

حتى يصيرا به إلى ملكٍ ** ما عزّ سلطانه بمشترك

ذاك بديع السّماء والأرض وال ** مرسي الجبال المسخّر الفلك

فقال المنصور: هذا أوان أجلي. قال الطبري: وقد حكى عبد العزيز بن مسلم أنه قال: دخلت على المنصور يوماً أسلم عليه، فإذا هو باهت لا يحير جواباً، فوثبت لما أرى منه لأنصرف، فقال لي بعد ساعة: إني رأيت في المنام كأن رجلاً ينشدني هذه الأبيات:
أأخيّ خفّض من مناكا ** فكأنّ يومك قد أتاكا

ولقد أراك الدّهر من ** تصريفه ما قد أراكا

فإذا أردت النّاقص العب ** د الذّليل، فأنت ذاكا

ملّكت ما ملّكته، ** والأمر فيه إلى سواكا

هذا الذي ترى من قلقي وغمي لما سمعت ورأيت؛ فقلت: خيراً رأيت يا أمير المؤمنين؛ فلم يلبث أن خرج إلى مكة، فلما سار من بغداد ليحج نزل قصر عبدويه، فانقض في مقامه هنالك كوكبٌ لثلاث بقين من شوال، بعد إضاءة الفجر، فبقي أثره بيناً إلى طلوع الشمس، فأحضر المهدي وكان قد صحبه ليودعه، فوصاه بالمال والسلطان، يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه، بكرة وعشية، فلما كان اليوم الذي ارتحل فيه قال له: إني لم أدع شيئاً إلا وقد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال ما أظنك تفعل واحدةً منها.
وكان له سفط فيه دفاتر علمه، وعليه قفل لا يفتحه غيره، فقال للمهدي: انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك، ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا ففي الثاني والثالث، حتى بلغ سبعة، فإن ثقل عليك، فالكراسة الصغيرة، فأنك واجدٌ فيها ما تريد، وما أظنك تفعل.
وانظر هذه المدينة، وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند، والنفقات، والذرية، ومصلحة البعوث، فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم، وتحسن إليهم، وتقدمهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر، فإن عزك عزهم، وذكرهم لك، وما أظنك تفعل. وانظر مواليك فأحسن إليهم، وقربهم، واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل خراسان خيراً، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم، وتتجاوز عن مسيئهم، وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل. وأياك أن تبني مدينة الشرقية، فأنك لا تتم بناءها، وأظنك ستفعل. وإياك أن تستعين برجل من بني سليم، وأظنك ستفعل. وإياك إن تدخل النساء في أمرك، وأظنك ستفعل.
وقيل: قال له: إني ولدت في ذي الحجة ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وإنما حداني على الحج ذلك، فأتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي، يجعل لك فيما كربك وحزنك فرجاً ومخرجاً، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.
يا بني احفظ محمداً، صلى الله عليه وسلم، في أمته، يحفظك الله ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام، فإنه حوبٌ عند الله عظيمٌ، وعارٌ في الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود، فإن فيها خلاصك في الآجل وصلاحك في العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله تعالى لو علم أن شيئاً أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه.
وأعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه أنه أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعي في الأرض فساداً مع ما ذخر له من العذاب العظيم، فقال: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَونْ في الأرَضِ فَسَاداً أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا} المائدة: 33 الآية. فالسلطان، يا بني، حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودينه القيم، فاحفظه، وحصنه، وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه، واقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن، واحكم بالعدل، ولا تشطط، فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع في الدواء.
وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما خلفه الله لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة، وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، وادفع المكاره عنهم، وأعد الأموال، واخزنها، وإياك والتبذير، فأن النوائب غير مأمونة، وهي من شيم الزمان.
وأعد الكراع والرجال والجند ما استطعت؛ وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع، جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولاً فأولاً واجتهد وشمر فيها؛ وأعد رجالاً بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالاً بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر، ولا تكسل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من تثبت على بابك، وسهل إذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عيناً غير نائمة، ونفساً غير لاهية، ولا تنم، فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة، ولا دخل عينه الغمض إلا وقلبه مستيقظٌ. هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك.
ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه، ثم سار إلى الكوفة، وجمع بين الحج والعمرة، وساق الهدي، وأشعره، وقلده لأيام خلت من ذي القعدة. فلما سار منازل من الكوفة عرض له وجعه الذي مات به، وهو القيام، فلما اشتد وجعه جعل يقول للربيع: بادرني حرم ربي هارباً من ذنوبي؛ وكان الربيع عديله؛ ووصاه بما أراد، فلما وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحر لست خلون من ذي الحجة، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمة، والربيع مولاه، فكتم الربيع موته، ومنع من البكاء عليه، ثم أصبح، فحضر أهل بيته كما كانوا يحضرون، وكان أول من دعا عمه عيسى بن علي، فمكث ساعة، ثم أذن لأبن أخيه عيسى بن موسى، وكان فيما خلا يقدم على عيسى بن علي، ثم أذن للأكابر وذوي الأسنان منهم، ثم لعامتهم، فبايعهم الربيع للمهدي، ولعيسى بن موسى بعده على يدي موسى الهادي بن المهدي.
فلما فرغ من بيعه بني هاشم بايع القواد، وبايع عامة الناس، وسار العباس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى مكة ليبايعا الناس، فبايعوا بين الركن والمقام، واشتغلوا بتجهيز المنصور، ففرغوا منه العصر، وكفن، وغطي وجهه وبدنه، وجعل رأسه مكشوفاً لأجل إحرامه، وصلى عليه عيسى بن موسى، وقيل إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ودفنت في مقبرة المعلاة، وحفروا له مائة قبر ليغموا على الناس، ودفن في غيرها، ونزل في قبره عيسى بن علي، وعيسى بن محمد، والعباس بن محمد، والربيع والريان مولياه، ويقطين، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، وقيل أربعاً وستين، وقيل ثمانياً وستين سنة، فكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يوماً، وقيل إلا ثلاثة أيام، وقيل إلا يومين؛ وقيل في موته: إنه لما نزل آخر منزل بطريق مكة نظر في صدر البيت، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم.
أبا جعفرٍ حانت وفاتك وانقضت ** سنوك، وأمر الله لا بدّ واقع

أبا جعفرٍ هل كاهنٌ أو منجّمٌ ** لك اليوم من حرّ المنيّة مانع

فأحضر متولي المنازل، وقال له: ألم آمرك أن لا يدخل المنازل أحد الناس؟ قال: والله ما دخلها أحد منذ فرغ. فقال: اقرأ ما في صدر البيت! فقال: ما أرى شيئاً، فأحضر غيره، فلم ير شيئاً، فأملى البيتين، ثم قال لحاجبه: اقرأ آية، فقرأ: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون} الشعراء: 227، فأمر به فضرب، ورحل من المنزل تطيراً، فسقط عن دابته، فاندق ظهره ومات، فدفن ببئر ميمون، والصحيح ما تقدم.